الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من فوائد أبي حيان في الآية: قال رحمه الله:{ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه}: نزلت في نطوس بن اسبيسيانوس الرومي، الذي خرب بيت المقدس، ولم يزل خرابًا إلى أن عمر في زمان عمر بن الخطاب.وقيل في مشركي العرب: منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام، قاله عطاء، عن ابن عباس، أو في النصارى، كانوا يودون خراب بيت المقدس، ويطرحون به الأقذار.وروي عن ابن عباس، وقال قتادة والسدي، في الروم الذين أعانوا بخت نصر على تخريب بيت المقدس: حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكريا، على نبينا وعليه السلام، قال أبو بكر الرازي: لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد بختنصر كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل.وقيل في بخت نصر، قاله قتادة، وقال ابن زيد وأبو مسلم: المراد كفار قريش حين صدوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام.وعلى اختلاف هذه الأقوال يجيء الاختلاف في تفسير المانع والمساجد.وظاهر الآية العموم في كل مانع وفي كل مسجد، والعموم وإن كان سبب نزوله خاصًا، فالعبرة به لا بخصوص السبب.ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه جرى ذكر النصارى في قوله: {وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} وجرى ذكر المشركين في قوله: {كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم} وفي أي نزلت منهم كان ذلك مناسبًا لذكرها تلي ما قبلها.ومن: استفهام، وهو مرفوع بالابتداء.وأظلم: أفعل تفضيل، وهو خبر عن من.ولا يراد بالاستفهام هنا حقيقته، وإنما هو بمعنى النفي، كما قال: {فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} أي ما يهلك.ومعنى هذا: لا أحد أظلم ممن منع.وقد تكرر هذا اللفظ في القرآن، وهذا أول موارده، وقال تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا} وقال: {فمن أظلم ممن كذب بآيات الله} {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها} إلى غير ذلك من الآيات.ولما كان هذا الاستفهام معناه النفي كان خبرًا، ولما كان خبرًا توهم بعض الناس أنه إذا أخذت هذه الآيات على ظواهرها سبق إلى ذهنه التناقض فيها، لأنه قال المتأول في هذا: لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، وقال في أخرى: لا أحد أظلم ممن افترى، وفي أخرى: لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها.فتأول ذلك على أن خص كل واحد بمعنى صلته، فكأنه قال: لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله، وكذلك باقيها.فإذا تخصصت بالصلات زال عنده التناقض.وقال غيره: التخصيص يكون بالنسبة إلى السبق، لما لم يسبق أحد إلى مثله، حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم، سالكًا طريقتهم في ذلك، وهذا يؤول معناه إلى السبق في المانعية، أو الافترائية.وهذا كله بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي، وعجمة في اللسان يتبعها استعجام المعنى.وإنما هذا نفي للأظلمية، ونفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية، لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق.لو قلت: ما في الدار رجل ظريف، لم يدل ذلك على نفي مطلق رجل، وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يكن تناقضًا، لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية.وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر، لأنهم يتساوون في الأظلمية.وصار المعنى: لا أحد أظلم ممن منع، وممن افترى، وممن ذكر.ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية.ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر.كما أنك إذا قلت: لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد، لا يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر، بل نفي أن يكون أحد أفقه منهم.لا يقال: إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وسعى في خرابها، ولم يفتر على الله الكذب، أقلّ ظلمًا ممن جمع بينهما، فلا يكون مساويًا في الأظلمية، لأن هذه الآيات كلها إنما هي في الكفار، فهم متساوون في الأظلمية، وإن اختلفت طرق الأظلمية.فكلها صائرة إلى الكفر، فهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لأفراد من اتصف به، وإنما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم، وللعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة، فنقول: الكافر أظلم من المؤمن، ونقول: لا أحد أظلم من الكافر.ومعناه: أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره.ومن في قوله: ممن منع، موصولة بمعنى الذي.وجوّز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة.أن يذكر: يحتمل أن يكون مفعولًا ثانيًا لمنع، أو مفعولًا من أجله، فيتعين حذف مضاف، أي دخول مساجد الله، أو ما أشبه ذلك، أو بدلًا من مساجد بدل اشتمال، أي ذكر اسم الله فيها، أو مفعولًا على إسقاط حرف الجر، أي من أن يذكر.فلما حذفت من انتصب على رأي، أو بقي مجرورًا على رأي.وكنى بذكر اسم الله عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقرّبات إلى الله تعالى بالأفعال القلبية والقالبية، من تلاوة كتبه، وحركات الجسم من القيام والركوع والسجود والقعود الذي تعبد به، أو إنما ذكر تعلق المنع بذكر اسم الله تنبيهًا على أنهم منعوا من أيسر الأشياء، وهو التلفظ باسم الله.فمنعهم لما سواه أولى.وحذف الفاعل هنا اختصارًا، لأنهم عالم لا يحصون.وجاء تقديم المجرور على المفعول الذي لم يسم فاعله، لأن المحدث عنه قبل هي مساجد الله، وهي في اللفظ مذكورة قبل اسم الله، فناسب تقديم المجرور لذلك.وأضيفت المساجد لله على سبيل التشريف، كما قال تعالى: {وأن المساجد لله} وخصّ بلفظ المسجد، وإن كان الذي يوقع فيه أفعالًا كثيرة من القيام والركوع والقعود والعكوف.وكل هذا متعبد به، ولم يقل مقام ولا مركع ولا مقعد ولا معكف، لأن السجود أعظم الهيئات الدالة على الخضوع والخشوع والطواعية التامة.ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وهي حالة يلقي فيها الإنسان نفسه للانقياد التام، ويباشر بأفضل ما فيه وأعلاه، وهو الوجه، التراب الذي هو موطئ قدميه.قال ابن عطية: وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة، أو خرّب مدينة إسلام، لأنها مساجد، وإن لم تكن موقوفة، إذ الأرض كلها مسجد.وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف قيل مساجد الله؟ وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس، أو المسجد الحرام؟ قلت: لا بأس أن يجيء الحكم عامًّا، وإن كان السبب خاصًا، كما تقول لمن آذى صالحًا واحدًا، ومن أظلم ممن آذى الصالحين؟ وكما قال الله عز وجل: {ويل لكل همزة لمزة}.والمنزول فيه الأخنس بن شريق. انتهى كلامه.وقال غيره: جمعت لأنها قبلة المساجد كلها، يعني الكعبة للمسلمين، وبيت المقدس لغيره.{وسعى في خرابها}: إما حقيقة، كتخريب بيت المقدس، أو مجازًا بانقطاع الذكر فيها ومنع قاصديها منها، إذ ذلك يؤول بها إلى الخراب.فجعل المنع خرابًا، كما جعل التعاهد بالذكر والصلاة عمارة، وذلك مجار.وقال المروزي: قال ومن أظلم ليعلم أن قبح الاعتقاد يورث تخريب المساجد، كما أن حسن الاعتقاد يورث عمارة المساجد.{أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين}: هذه جملة خبرية قالوا تدلّ على ما يقع في المستقبل، وذلك من معجز القرآن، إذ هو من الإخبار بالغيب.وفيها بشارة للمؤمنين بعلوّ كلمة الإسلام وقهر من عاداه.إلا خائفين: نصب على الحال، وهو استثناء مفرّغ من الأحوال.وقرأ أبي: إلا خيفًا، وهو جمع خائف، كنائم ونوّم، ولم يجعلها فاصلة، فلذلك جمعت جمع التكسير.وإبدال الواو ياء، إذ الأصل خوّف، وذلك جائز كقولهم، في صوم صيم، وخوفهم: هو ما يلحقهم من الصغار والذل والجزية، أو من أن يبطش بهم المؤمنون، أو في المحاكمة، وهي تتضمن الخوف، أو ضربًا موجعًا، لأن النصارى لا يدخلون بيت المقدس إلا خائفين من الضرب، أقوال.والظاهر أن المعنى: أولئك ما ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا وهم خائفون من الله وجلون من عقابه.فكيف لهم أن يلتبسوا بمنعها من ذكر الله والسعي في تخريبها، إذ هي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه {يسبح له فيها بالغدوّ والآصال}؟ وما هذه سبيله ينبغي أن يعظم بذكر الله فيه، ويسعى في عمارته، ولا يدخله الإنسان إلا وجلًا خائفًا، إذ هو بيت الله أمر بالمثول فيه بين يديه للعبادة.ونظير الآية أن يقول: ومن أظلم ممن قتل وليًا لله تعالى؟ ما كان له أن يلقاه إلا معظمًا له مكرّمًا أي هذه حالة من يلقى وليًا لله، لا أن يباشره بالقتل.ففي ذلك تقبيح عظيم على ما وقع منه، إذ كان ينبغي أن يقع ضده، وهو التبجيل والتعظيم.ولما لم يقع هذا المعنى الذي ذكرناه للمفسرين، اختلفوا في الآية على تلك الأقوال التي ذكرناها عنهم.ولو أريد ما ذكروه، لكان اللفظ: أولئك ما يدخلونها إلا خائفين، ولم يأت بلفظ: ما كان لهم، الدالة على نفي الابتغاء.وقيل المعنى: ما كان لهم في حكم الله، يعني أن الله قد حكم وكتب في اللوح المحفوظ أنه ينصر المؤمنين ويقوّيهم حتى لا يدخل المساجد الكفار إلا خائفين.قال بعض الناس: وفيها دلالة على جواز دخول الكفار المساجد على صفة الخوف، وليس كما قال، إذ قد ذكرنا ما دلّ عليه ظاهر الآية.وقيل في قوله: {أولئك ما كان لهم أن يدخلوها}: أن لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر لنا بأن نخيفهم، وإنما ذهب إلى ذلك لأن الله تعالى قد أخبر أنهم سيدخلون بيت المقدس على سبيل القهر والغلبة بقوله: {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرة وليتبروا ما علوا تتبيرًا} ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذا السويقتين من الحبشة يهدم الكعبة حجرًا حجرًا.فلما رأى أن هذا يعارض الآية، إذا جعلناها خبرًا لفظًا، ومعنى حملها على الأمر ودلالتها على الأمر لنا بالإخافة لهم بعيدة جدًا، وإذا حملنا الآية على ما ذكرناه، بطلت هذه الأقوال.وأما قوله تعالى: {فإذا جاء وعد الآخرة}، فليس ذلك كناية عن يوم القيامة، وسيأتي الكلام عليه في موضعه، إن شاء الله تعالى.وقوله: {أولئك}، حمل على معنى من في قوله: {ومن أظلم}، ولا يختص الحمل فيها على اللفظ وعلى المعنى بكونها موصولة، بل هي كذلك في سائر معانيها من الوصل والشرط والاستفهام، وكلاهما موجود فيها في سائر معانيها في كلام العرب.أما إذا كانت موصوفة نحو: مررت بمن محسن لك، فليس في محفوظي من كلام العرب مراعاة المعنى فيها.وقد تكلمنا قبل على كونها موصوفة.وقال بعض الناس في قوله تعالى: {ومن أظلم}: الآية، دليل على منع دخول الكافر المسجد، ثم ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك، وهي مسألة تذكر في علم الفقه، وليس في الآية ما يدل على ما ذكره على ما فهمنا نحن من الآية.{لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم}: هذا الجزاء مناسب لما صدر منهم.أما الخزي في الدنيا فهو الهوان والإذلال، وهو مناسب للوصف الأول، لأن فيه إخمال المساجد بعدم ذكر الله وتعطيلها من ذلك، فجوزوا على ذلك بالإذلال والهوان.وأما العذاب العظيم في الآخرة، فهو العذاب بالنار، وهو إتلاف لهياكلهم وصورهم، وتخريب لها بعد تخريب {كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب} وهو مناسب للوصف الثاني، وهو سعيهم في تخريب المساجد، فجوزوا على ذلك بتخريب صورهم وتمزيقها بالعذاب.ولما كان الخزي الذي يلحقهم في الدنيا لا يتفاوتون فيه حكمًا، سواء فسرته بقتل أو سبي للحربي، أو جزية للذمي، لم يحتج إلى وصف.ولما كان العذاب متفاوتًا، أعني عذاب الكافر وعذاب المؤمن، وصف عذاب الكافر بالعظم ليتميز من عذاب المؤمن.وقيل: الخزي هو الفتح الإسلامي، كالقسطنطينية وعمورية ورومية، وقيل: جزية الذمي، قاله ابن عباس، وقيل: طردهم عن المسجد الحرام، وقيل: قتل المهدي إياهم إذا خرج، قاله المروزي، وقيل: منعهم من المساجد.قال بعض معاصرينا: إن على كل طائفة من الكفار في الدنيا خزيًا.أما اليهود والنصارى، فقتل قريظة، وإجلاء بني النضير، وقتل النصارى وفتح حصونهم وبلادهم، وإجراء الجزية عليهم، والسيما التي التزموها، وما شرطه عمر عليهم.وأما مشركو العرب، فقتل أبطالهم وأقيالهم، وكسر أصنامهم، وتسفيه أحلامهم، وإخراجهم من جزيرة العرب التي هي دار قرارهم ومسقط رءوسهم، وإلزامهم خطة الهلاك من القتل إلا أن يسلموا.وقال الفرّاء: معناه في آخر الدنيا، وهو ما وعد الله به المسلمين من فتح الروم، ولم يكن بعد.قال القشيري: في قوله تعالى: {ومن أظلم} الآية، إشارة إلى ظلم من خرّب أوطان المعرفة بالمنى والعلاقات، وهي قلوب العارفين وأوطان العبادة بالشهوات، وهي نفوس العباد وأوطان المحبة بالحظوظ والمساكنات، وهي أرواح الواجدين وأوطان المشاهدات بالالتفات إلى القربات، وهي أسرار الموحدين.{لهم في الدنيا خزي}: ذل الحجاب، وفي الآخرة عذاب لاقتناعهم بالدرجات.انتهى، وبعضه ملخص.وهذا تفسير عجيب ينبو عنه لفظ القرآن، وكذا أكثر ما يقوله هؤلاء القوم. اهـ.
|